الدعوة إلى الله .. الهم المفقود
الحمد لله الذي جعل لكل أمة دعاة يحمون جنابها ... ويصونون عرضها ... فهم
تروس دونها ... حاملين هم نشرها .. مدركين قدرها ... وصلى الله على أعظم
مرب ومخرج لرجال الأمة وصناديد الدعوة والهدى ... منها خرج حبر الأمة ...
وبها سار سيف الله المسلول ... فانتشرت الدعوة وبلغ الإسلام ما بلغ ...
فصلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار ومن سار على نهجه وأستن
بسنته إلى يوم الدين ..
يقول الله تعالى في معجزة الكون الخالدة ... ومحكم التنزيل
( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )
بهذه الآية .. أفتتح كلامي ..ولها .. أصوغ جميل عباراتي ..وعليها ... منهج حياتي ...ومنها زادي .. حتى ألقى الله من شرفني
وعمني بقوله يا عبادي ...فما أحلاها من عبارات .. وما أطيبها من توصيات ... وما أشرفه من وسم ...
بهذه التوصية تعلو الأمة بعد هوان .. وبها تصبح الأمة كما قال عليه الصلاة والسلام كالبنيان .. يشد بعضه بعضاً ...
بها يتسع الأفق .. وبها يطمئن القلق ... ولها يعذب الكلام اللبق ...
منها أشرقت الشمس بعد الغروب ... ومنها وحد الخلق بعد الكفر علام الغيوب ...
إنها إسمٌ لا يدركه إلا النبيه ... ولا يعقله السفيه ..
فلها أصبح الصحابة فرسان ... وبسببها سارت بهيبتهم الركبان ... وانتشرت فتوحاتهم من أقصى الأرض إلى أقصاها.
إنها أجمل عنوان ... وهداية الحيران ... وأسهل طريق لنيل السعادة في الجنان ...
إنها الدعوة إلى الله ... كلمةٌ ٌ... أي قلب يعقلها وقد فارق حياة الطريق
المستقيم ... وأي عقل يدركها وقد أسَرَه من الدنيا ترفها الزائل و نعيمها
المهلك ...
أنها العمل لهذا الدين و رفع راية الحق ... وإزهاق علم الباطل ...
كثر الكلام حولها ... وتسابق الرجال لنشرها .. فالداعية بموعظته ...
والكاتب بقلمه ... وكل بموهبته ..وبما يستطيع ... غير أن تلبيس إبليس جمد
العقول النيرة ... وأهلك القلوب الواعية ... إذ أن المقصر كيف يدعو وهو أحق
بأن يدعو نفسه لجبر نقصه ودرء مفسدته !!!؟؟
وكيف له أن يحرص على منفعة غيره ... وهو أصلاً مقارف للمعصية وقد أثقلته
ذنوبه ؟!! فما كان من الضعيف إلا أن رفع الراية البيضاء استسلاما ... ورضي
بالثرى دون الثريا ... فصار الناس بذلك جهلة ...
و ازداد تمسكهم بدنياهم ... واشتغلوا بذلك عن ربهم ... فانتشرت الرذيلة ... وانقرض في الحياة معنى الفضيلة ...
وأنقل لكم رائعة من روائع العالم الرباني ... والفقيه المحدث .. والعلامة الجهبذ ...عليه من الله الرحمات فكم سكبنا عليه العبرات
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز .. رحمه الله تعالى حينما سأله ذلك
السائل ... والذي لبّس عليه إبليس فصار عن الحقيقة غافل وذلك بقوله هل يجوز
للإنسان أن يدعو وهو على الخطأ وعليه التقصير والآثام ظاهرة عليه ؟؟؟
فأجاب العالم بالنفي وبالكلمة الواحدة : ( لا بل يدعو إلى الخير حتى لو كان على تقصير )
سمعتها بنفسي من أحد مسموعاته رحمه الله والله على ما أقول شهيد ...
إنها مسؤولية الجميع ... وإنها أمانتنا بأن نضخ الدماء في هذا الجسد الضخم
وهذه الملايين المملينة من المسلمين ... الذين تركوا هذا الدين وألقوه على
عاتق غيرهم وكم هم غيرهم الذين لا يزالون يحملون هم الرسالة العظيمة ...
والحياة الكريمة ؟؟؟
وإليكم هذا الشاهد الممتع ... و المحفز العظيم ... ولكم هذه القصة التي
علها أن تنفض عن القارئ غبار الغفلة وبقايا إبليس النتنة ... إن كان القلب
سليماً حياً ... يعي ويقدر .. ويدرك أن هم الدعوة هو من يحمله ... وهو من
سيعين على نشره ...
الطفيل بن عمرو الدوسي ... الصحابي الجليل ... لا تزال به قريش قبل إسلامه
بحملتها الإعلامية الشرسة على رسول الهدى والتقى في بداية الإسلام ... كما
هو الحال الآن ... وكانت بشركها القذر تنذر كل وافد إلى مكة : ( إنا نحذرك
غلام بني عبد المطلب، إنه يقول كلاما يسحر به من يسمعه، فيفرق به بين المرء
وأبيه وبين المرء وأخيه، أحذر ومن أنذر فقد أعذر ).
بهذه العبارة التحذيرية ... ومن صناديد قريش وكبارهم وعقلائهم ... وما في الشرك عاقـل ...
وكان ممن تلقوا هذا الإنذار الخطير ... الطفيل رضي الله عنه ... حتى تأثر
بهذه الحملة الإعلامية فوضع القطن في أذنيه حتى لا يسمع كلام النبي فيسحر
كما يزعمون فيعظم ذنبه عند قريش ... كبيرة من الكبائر عندهم سببها أن يسمع
الحقيقة وأن يعي الأمانة من نبي الأمة عليه الصلاة والسلام .. فمر بجوار
الكعبة ليسمع كلاماً لو نزل على جبل لتصدع ...
وعلى السماوات لانفلقت .. كلام تعطرت به أجواء الشرك ... هو نور الإيمان ..
وحقيقة التوحيد ... ورغم القطن الذي وضعه الطفيل إلا أن القرآن اخترق
الحواجز .. ليخالط شغاف القلب الحي ... وليطهره من درن الشرك ... فراجع
نفسه .. بعد أن استيقظت الفطرة التوحيدية (( فطرة الله التي فطر الناس
عليها )) ولا يزال على نفسه يراجعها ويقول عجبا إنني رجل عاقل لبيب فكيف
أعير عقلي غيري؟
آلا أتيت إلى هذا الرجل فسمعت منه فإن كان خيرا كنت أحق به، وإلا فإني أعرف
كلام العرب شعرها ونثرها وكهانتها وسحرها، فنزع القطن من أذنيه ثم جاء إلى
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال:
إني قد سمعتُ قولَ قومَك فيك، وإني أحبُ أن أسمع منك، فاعرض عليَ ما عندَك،
فعرض عليه الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) الإسلام وعلَمهُ القرآن، فأمن
مكانه.
فشعر بالمسؤولية .. وأدرك المهمة بعد أن نطق بالشهادة وشعر بلذة العبادة
... على عجل وبعد إسلامه ... لم يتردد ويقول أنا كنت وكنت وفعلت ما فعلت
... بل قال : يا رسولَ الله إن دوساً كفرت بالله وانتشر فيهم الزنى فأرسلني
إليهم لاحظ هذا ولم يصله الإسلام إلا الآن !!
لا إله إلا الله !! عجيب .. متى استشعر هذا القلب المسؤولية .. صار سراجاً
يضيء الطريق المظلم .. فيهدي الضال ويبين له الطريق الصحيح .. فأرسلَه
الرسول (صلى الله عليه وسلم) إليهم، ودعا الله أن يجعل له آية فلم انصب
إليهم تجلت الآية وظهر البرهان ... وإذا هي نور في وجهه، فإذا هو يضيء فكأن
وجهه سراج، منير فقال يا رب يراها قومي فيقولون مُثلة، اللهم أجعلها في
سوطي، فانتقلت إلى سوطه فكان يحرك سوطه وفي طرفه مثل القنديل.
وعرض الطفيل الإسلام على قومه فأسلم بعض قرابته واستعصت عليه عشيرته.
فرجع إلى الرسول ولا تزال حرقة الدعوة تزداد اضطراما في فؤاده الحي فيقول
للرسول : يا رسول الله إن دوسا قد كفرت بالله فأدعو الله عليهم..
فرفع النبي (صلى الله عليه وسلم) يديه الطاهرتين المباركتين التي ما دعت بإثم ولا قطيعة رحم وقال:
اللهم اهدي دوساً، اللهم اهدي دوساً، اللهم اهدي دوساً.